يشكل القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين المعين الذي لا ينضب، والناصح الذي لا يغش،
وهو مصدر للهداية والأفكار والأذكار، وعليه مدار الحياة العلمية والروحية، بحفظه، وتلاوته، وتدبره، والعمل به، ولعل جل العلوم الإسلامية كان سبب نشأتها هو خدمة القرآن الكريم، وكلما تقدم الناس في الزمان، ازدادت حاجتهم للقرآن وأهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وإذا كانت الوقائع المستجدة تتطلب بيان حكم الشارع فيها ؛ فإن العلماء مدعوون إلى ممارسة اجتهاد يؤلف بين الرؤية القرآنية والحكمة البشرية، ويراعي اختلاف الناس في الأفهام، والقدرات، والاستعدادات، وإن أهم ما شهدته منطقتنا العربية أخيرا، هو تداعي الكثير من شعوبها إلى التحرر من تسلط الحكام الظلمة الذين صادروا حرياتها في اختيار من يحكمهم ويسوسهم، عبر ثورات سلمية ومسلحة ـ على سبيل الإلجاء لا على سبيل الابتداءـ لأن العنف لا يأتي بخير، ويكفي تلك الثورات أن تنجز المهمة الأولى وهي: كسر حاجز الخوف في نفوس الناس، ليتم التفرغ لمهام البناء الشاقة والطويلة والمحفوفة بالمخاطر.
والمطلع على كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين سيقف على نظرات دقيقة في مسار الثورات ومآلاتها وشروط نجاحها، والعقبات التي تعترضها، ولقد بدأ عملَه التأصيلي بتخليص مصطلح "الثورة" مما شابه من الفلسفات المادية التي ربطته بالعنف، والسعي إلى إفناء طبقة لتحل محلها طبقة أخرى ؛ لذلك نبه على الملامح القرآنية الكبرى لما سماه"القومة" بدل مصطلح "الثورة"، ومن تلك الملامح القرآنية خلص إلى بيان مجموعة من المستفادات العملية والنظرية.
أولا: الرؤية القرآنية للقومة والتغيير
حتى لا يتم حصر مفهوم "القومة" في المعنى السياسي نبَّه السيد ياسين على ملامحها القرآنية فأجملها في سبعة هي:
1. الملمح القرآني الأول: "قومة الداعي تبتدِئ بقومة الرسول في قومه، يخاطبهم بلسـانهم
على الرفق لا على العنف"وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً" (الجن، 19).
2. الملمح القرآني الثاني: قومة الشاهد بالقسط التي يدعو إليها القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ (المائدة، 9)، ﴿ كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ﴾ (النساء،134).
3. الملمح القرآني الثالث:قومة إلى الصلاة وإقامة الصلاة.
4. الملمح القرآني الرابع: قومة الإحسان
5. الملمح القرآني الخامس: إقامة حدود الله.
6. الملمح القرآني السادس: القيام بأمر الله، وقيام الدعوة على الدولة.
7. الملمح القرآني السابع: إقامة الوحدة
ثانيا: تأصيل الجهاز المفاهيمي ودينامية التغيير
بناء على ما ذكر يتبين أن لموضوع الرؤية القرآنية للثورة وإعادة البناء من خلال مكتوبات الأستاذ عبد السلام ياسين صلة وثيقة بتأصيل الجهاز المفاهيمي، وبمسألة دينامية التغيير والثورة وإعادة البناء، وتوضيح هذا يقتضي رسم أمور:
- إيلاء أهمية قصوى لمسألة المصطلح، حتى لا تلتبس المفاهيم فيحدث التخبط في الحركة
- مراعاة خصوصية كل مجتمع بشكل لا يعيق مبادرات التغيير بدعوى الخصوصية نفسها
- توجيه الغضب الفطري:" يكون الغضب الفطري البشري على الظلم، الغضب المختزن في نفوس المحرومين، الطاقة الفاعلة التي تحمل في ثناياها المبعثرة إمكانيات الثورة"
- إن مهمة الإسلاميين هي "أن يحقنوا الغضب الشعبي بجرعات إيمانية. وبلقاء الحافزين، وبقيادة الاعتبار الإحساني، وهيمنته، وجدارته، وقدرته على ضرب المثال، نرتقي بالحركة عن مستوى الغضب الجماهيري إلى مستوى القومة لله"
- الواقعية واجتناب المزايدات الشعارية:الواقعية من حيث ضرورة الوعي بالعقبات التي تواجه عملية إعادة البناء بعد قيام الثورات، أما الشعارات فما لا يُترجم منها إلى أعمال يُسهم في تغميض الأحوال على الناس
- العفو والصفح (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
- الحاجة ماسة إلى"العفو الاقتصادي"، فإذا كان لابد من تفكيك جماعات الضغط الاقتصادية الإقطاعية، فلا بد كذلك من الحيلولة دون تحطيم الجهاز الاقتصادي الموجود
إن الرؤية القرآنية للقومة والثورة وإعادة البناء في مكتوبات الأستاذ عبد السلام ياسين تتأسس على سبعة مفاهيم تندرج تحت كل واحد منها عدة اعتبارات
أولا: الدعوة الرفيقة والحكيمة التي تراعي لسان الناس وقدر عقولهم
- ومهمة الدعوة بعد أن تصبح الدولة بيدها، طوع إرادتها، أن تستصلح الوسائل المادية والمالية والتقنية والإدارية لخدمة المطالب الدنيوية
- ليست الدعوة مجرد توجيهات لا صلة لها بهموم الناس، ومطالبهم المادية
- إن إرجاع الفاعلية للدعوة يتوقف على إعادة العلاقات بينها وبين الدولة إلى نصابها الإسلامي
- من أشد المزالق أن تنشغل الدعوة بالسياسة عن التربية
ثانيا:إقامة العدل، ﴿ كونوا قوامين بالقسط شهداء لله﴾ (النساء، 134)
- لا عدل بدون تطهير الجهاز القضائي، وتمتيعه بالاستقلال التام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإلا بالعدل في توزيع الثروة، والفصل بين الثروة والسلطة
- الجمهور هم ضمانة تحقيق العدل شريطة أن نَرْفَعْهُ بالعدل وضمان العيش الكريم إلى آدميته، وأن نحرر نفسه وعقله من الخرافات، والنفاق، والغزو الحضاريِّ، ودين الانقياد
ثالثا:إقامة الصلاة عماد الدين وغذاء الروح
رابعا: قومة الإحسان التي تحافظ على الفطرة
﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فِطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّمُ﴾ (الروم، 29)
- الحفاظ على سلامة الفطرة يقتضي تربية الجسم بما يليق من غذاء وكساء، وتربيةِ الروح بالحفاظ على سلامة الفطرة، وتربية العقل والمهارة.
- فساد الفطرة يذهب بالمعنى من القلب، ويحول بينه وبين نيل مرتبة الإحسان التي هي المرتية العليا في الدين.
خامسا: إقامة حدود الله في السياق التربوي العدلي العمراني الأخوي
- يحرص الإسلام أول شيء على زرع ثقافة المناعة في النفوس، لا ثقافة المنع
- يحاط تنفيذ العقوبات بعدة شروط، وبأسوار من الاحتياطات، على نحو يحمل على الاعتقاد أن الشارع يفضل الخطأ في العفو على الخطأ في العقوبة
- لا تطبق الشريعة على قوم لا يؤمنون بها، ولا يدعمونها، ولا يعطونها وَلاءَهم كما يريد منهم الله تعالى.
- حسن تطبيق الشريعة يقتضي التدرج وفقه الواقع وتطهير وتأهيل الجهاز القضائي
سادسا: القيام بأمر الله، وقيام الدعوة على الدولة
- وبدون ضبط العلاقة بين الدعوي والسياسي ؛ لن يتأتى ضبط العلاقة في الدائرة الأكبر - حين التمكن- بين الدعوة والدولة
- إن السلك العلمائي مدعو إلى الانخراط بقوة في العملية التغييرية، متسلحا بالفقه الثوري المغيب، والوفاء بمقتضيات الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليه، ومدعو إلى الانعتاق من أسباب العجز، والانخلاع من ربقة التقليد، لاسيما العاملين منه في المؤسسات الدينية الرسمية
سابعا:إقامة الوحدة
- إن مهمة إعادة البناء ستكون عسيرة بدون فقه أسباب انتقاض البناء الإسلامي الوحدوي الأول
- الوعي بأهمية القاعدة الاقتصادية في إقامة الوحدة بدون إغفال أهمية الرافعة الروحية
- التكفير ذو أثر سيءفي شق صفوف الأمة وهدم الوحدة، وهو تكفير يعد أشد خطرا من أي وقت مضى
تلكم هي الملامح السبعة للرؤية القرآنية لمسألة الثورة والقومة التي نبه عليها الأستاذ "عبد السلام ياسين" الذي يمكن اعتبار أفكاره إسهاما مهما في بناء علم ثورة جديد منبثق من الذات الإسلامية، ويحضر فيه الإسلام والرؤية القرآنية الواضحة وفضائل العقل والحكمة والمرونة والفاعلية بقوة.
0 commentaires: